ads header

أحدث المقالات

حروب الغاز: دوافع التنافس الأمريكي الروسي على الأرض السورية

 


مرت منطقة الشرق الأوسط بتغيرات جوهرية خلال فترة ما بعد ثورات الربيع العربي، فهي من أكثر المناطق أهمية في العالم، حيث إنه لا سلم ولا أمن للعالم بأسره إلا باستقرار هذه المنطقة المفخخة بشتى أنواع الصراعات، المسلحة منها وغير المسلحة.

منذ ثورات الربيع العربي والمنطقة تمر بحالة من عدم اليقين، الذي تمثل في ارتفاع وتيرة الصراع في المنطقة وزيادة أعداد المتعطلين للعمل من الشباب، في الوقت الذي تنخفض فيه معدلات النمو في المنطقة وتتدهور فيه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

خريف عربي لم يسلم منه أحد

أصبحت سوريا ساحة لحرب بالوكالة بين أطراف دولية تسعى لتحقيق مصالحها في الأساس، وليبيا لم ولن تخرج من نفق القبلية المظلم الذي خلفه نظام القذافي إلا بعد إراقة المزيد من الدماء، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في اليمن تسوء يومًا بعد يوم منذ محاولة أنصار الحوثي الاستيلاء على السلطة.

حتى دول المنطقة التي لم تتكبد ألم الصراع ولم تذق مرارة الحرب تعاني هي الأخرى، فمعدلات النمو في دول الخليج آخذة في التباطؤ منذ أواخر 2014 بالتزامن مع بدء الضغط على اقتصادها جراء انخفاض أسعار البترول.

كذلك تونس والجزائر ومصر كل منها في حالٍ يرثي لها، فمصر تحاول النهوض والمضي قدمًا في طريق الديمقراطية المحفوف بالهجمات الإرهابية المتكررة والضغوط الاقتصادية، والجزائر تعاني من ضغوط اقتصادية تتمثل في زيادة عجز الموازنة والميزان التجاري مع انخفاض أسعار البترول لاعتمادها عليه بشكل أساسي كمصدر للدخل.

الأسباب الحقيقية وراء انطلاق شرارة الربيع العربي

http://gty.im/108197069

كان الدافع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي عاملًا أساسيًا في قيام ثورات الربيع العربي، فالضغط الأمني وعدم العدالة وسوء توزيع الثروة وارتفاع الأسعار وانحسار الحريات كانت بمثابة البنزين الذي أشعل نيران الغضب الشعبي، والشرارة التي تحولت لنيران مستعرة أتت على الأخضر واليابس في دول المنطقة.

لكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد السطحي من التحليل، فمنطقة الشرق الأوسط منطقة ملتهبة بطبعها، منطقة نفوذ «جيوبولتيكي» لأطراف دولية تتصارع ليل نهار لتحقيق مصالحها، هذه المصالح التي تتمثل بشكل أساسي في غاز حوض البحر المتوسط في كل من لبنان وسوريا ومصر والعراق.

فقد أعلنت لبنان في 2006-2007 عن اكتشاف مكامن تضم كميات واعدة من الغاز في مياه البحر، كما أعلن جبران باسيل وزير الطاقة اللبناني في أغسطس/آب 2012 أن تحليل 10% فقط من المياه الإقليمية اللبنانية أسفر عن اكتشاف حوالي 30 تريليون متر مكعب من الغاز. كما أن التقديرات الأولية تقول إن سوريا تمتلك أحد عشر مِثلًا لما هو موجود من الغاز في إسرائيل. كما صرح سايمون هندرسون مدير برنامج سياسة الطاقة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أن كمية الغاز الموجودة قبالة حوض النيل في المياه الإقليمية المصرية تبلغ عدة أضعاف الكمية المكتشفة في إسرائيل وقطاع غزة وقبرص معًا، والتي تقدر بـ 40 تريليون قدم مكعب من الغاز، وأن مصر أكثر أهمية من إسرائيل ولبنان فيما يتعلق بالغاز.

ناهيك عن توقعات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكي (USGS)، والتي تشير إلى أن الاحتياطي في حوض منطقة الشرق الأوسط أو حوض الشام يصل إلى 3500 مليار متر مكعب.

من هنا كان التنافس الأمريكي الروسي على الوجود وبسط النفوذ في المنطقة أمرًا لا مفر منه، وهو ما جعل من دول المنطقة أحجارًا على رقعة شطرنج يحركها الطرف الروسي بذكاء والطرف الأمريكي بدهاء، محاولًا كل منهما الفوز ولو خلّف ذلك شعوبًا فقيرة وبلادًا مدمرة.

النفط كورقة ضغط فعالة

تبدأ القصة مع عام 1973 عندما كان النفط هو المصدر الرئيسي للطاقة في ذلك الوقت، في هذا العام أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أهمية الطاقة وأن السيطرة على مصادر النفط هي وسيلة أساسية لتعزيز النفوذ الأمريكي خلال العقود القادمة، في عام 73 قامت منظمة «أوبك» بوقف تصدير البترول لكل الدول المساندة لإسرائيل في صراعها مع مصر وسوريا والعراق.

وكان النفط وسيلة ضغط فعالة في ذلك الوقت، فقد شهدت دول أوروبا أزمة حادة في تلك الفترة، على سبيل المثال قامت فرنسا بمنع استخدام السيارات يوم الأحد، وبدأت تنتشر الأحصنة واستخدام الدراجات في شوارع هولندا وأمريكا، ناهيك عن الارتفاع غير المسبوق في الأسعار.

النفط أو الموت

تعلمت الولايات المتحدة الدرس، وأدركت أن السيطرة على مصادر النفط تعني السيطرة على العالم، وبدأت تسعي حثيثًا من أجل إحكام قبضتها على منابع النفط في العالم، فقامت بالتفاوض مع آل سعود على أن تحفظ لهم ملكهم وتدعم عرشهم في مواجهة أي اضطرابات بالإضافة إلى قيام الشركات الأمريكية بتعمير الصحراء السعودية. وفي المقابل تلتزم السعودية بإمداد أمريكا بالنفط تحت أي ظروف وفي كل وقت، حتى لو اتفق أعضاء منظمة «أوبك» على رفع الأسعار فإن السعودية ستلتزم بالأسعار التي تمليها عليها الولايات المتحدة الأمريكية.

ثم اتجهت الولايات المتحدة إلى فنزويلا وبنما والعراق .. وغيرها من الدول، فإذا رفضت حكومات أي من هذه الدول عروض الولايات المتحدة بالتعمير وإعادة البناء كانت ثعالب المخابرات الأمريكية على أتم الاستعداد للعمل على تدمير وتقويض حكمها واغتيال زعمائها.

اقرأ أيضًا:الاغتيال الاقتصادي للأمم

على سبيل المثال رفض صدام حسين اتفاقًا أمريكيًا مماثلًا لذلك الذي وافق عليه آل سعود، فكانت النتيجة هي اتخاذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ذريعة لاحتلال العراق ونهب ثرواته من البترول. كذلك عندما رفض عمر توريخوس – زعيم بنما – العرض الأمريكي تم اغتياله بيد الغدر الأمريكية.

النفط وانهيار الاتحاد السوفيتي واحتكار تجارة الغاز

مع قيام الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد سيطرت بالفعل على معظم مصادر النفط في العالم، وكان النفط عاملًا أساسيًا في هزيمة الاتحاد السوفيتي وإعلان تفككه عام 1991، فقد عانت المصانع الروسية من نقص إمدادات النفط، ما أجبر الاتحاد السوفيتي على التفكك والانهيار.

أدركت روسيا ما أدركته الولايات المتحدة قبل عقدين من الزمان، وحاولت أن تصنع لنفسها عرشًا جديدًا للطاقة تتربع عليه وحدها، وبما أن أمريكا بالفعل محكترة للنفط في العالم، فليس أمام روسيا سوى احتكار مصادر الغاز، ومما سهل هذه المهمة عليها هو أنها تمتلك بالفعل أكبر احتياطي غازي في العالم. وبهذا احتكرت شركة غاز بروم الروسية بخطوطها الممتدة على مساحات واسعة (كما هو واضح في الخريطة) تجارة الغاز مع الاتحاد الأوروبي.

توضح الخريطة المجال الجغرافي لشركة الغاز الروسية (غاز بروم)
توضح الخريطة المجال الجغرافي لشركة الغاز الروسية (غاز بروم)

«اتفاقية كيوتو» وأهمية الطاقة النظيفة خصوصًا الغاز

في عام 2009 ومع إدراك الولايات المتحدة الأمريكية أن الغاز هو طاقة المستقبل النظيفة في ظل تراجع احتياطيات النفط في العالم، وفي ظل توقيع اتفاقية كيوتو عام 1997 في كيوتو في اليابان، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2005 وصادق عليها 183 دولة عام 2008.

بموجب هذه الاتفاقية وافقت الدول الصناعية على خفض الانبعاث الكلي للغازات الدفيئة بنحو 5.2% مقارنة بعام 1990، فقد ألزم الاتحاد الأوروبي بتخفيض ما قدره 8% والولايات المتحدة بنسبة 7%، واليابان بنسبة 6%، وهو ما يفرض على هذه الدول تخفيض استهلاكها من البترول والاتجاه لمصادر الطاقة النظيفة كالغاز والشمس والرياح.

ومن هنا قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتوقيع اتفاق في العاصمة التركية أنقرة يقضي بإنشاء خط غاز يمتد من أذربيجان وتركمانستان – رابع أكبر احتياطي غازي في العالم – في وسط آسيا مارًا ببحر قزوين إلى تركيا ومنها إلى قلب أوروبا (خط غاز نابوكو)

خط أنابيب الغاز (نابوكو)، القادم من آسيا الوسطى، مارًا بتركيا إلى أوروبا

هذا المشروع كان الهدف الأساسي منه كسر الاحتكار الروسي لتجارة الغاز العالمية، وإنشاء خط غاز جديد ينقل الغاز الآسيوي إلى السوق الأوروبي المتعطش للطاقة دون المرور بروسيا.

حرب تكسير العظام بين روسيا وأمريكا

كشر الدب الروسي عن أنيابه، وأعلن هجومًا حادًا على هذا المشروع الوليد الذي اعتبره معاديًا لمصالح روسيا الإستراتيجية، فقامت روسيا بعدة هجمات مضادة أجهضت هذا المشروع قبل مولده.

فقامت روسيا بخلق نزاع حول الماهية الطبيعية لمسطح قزوين المائي وهل هو بحر أم بحيرة؟ وأصرت روسيا على أن مسطح قزوين بحيرة، وهو ما يسمح لها وفقًا للقانون الدولي بتوزيع ثروات هذه المسطح على الدول المطلة عليه بالتساوي، ومن هنا كان من المستحيل مرور خط الغاز الأمريكي (نابوكو) عبر قزوين دون موافقة روسيا.

على جانب آخر قامت روسيا بعقد اتفاقيات طويلة الأجل مع كل من أذربيجان وتركمانستان تقضي بتعهد هذه الدول بإمداد روسيا بالغاز على المدى الطويل. ومن هنا جففت روسيا المنابع التي كان من المخطط أن يقوم عليها خط الغاز الأمريكي.

البديل الأمريكي

خط أنابيب الغاز (نابوكو)، القادم من آسيا الوسطى، مارًا بتركيا إلى أوروبا
خط أنابيب الغاز (نابوكو)، القادم من آسيا الوسطى، مارًا بتركيا إلى أوروبا

لكن أمريكا لم تيأس، فقامت باللجوء إلى حلفائها التقليديين في الخليج، وتم عقد اتفاق على أن تكون قطر هي المصدر البديل للغاز الآسيوي. فيتم نقل الغاز القطري عبر شبه الجزيرة العربية إلى سوريا ومنها إلى تركيا ومن تركيا إلي قلب أوروبا.

لكن الأمر لن يستقيم على هذا النحو، فسوريا هي عقدة التقاء خطوط الغاز (المصرية والقطرية والإسرائيلية) قبل توجهها نحو تركيا، والنظام السوري لن يقبل أبدًا بمرور هذه الخطوط عبر أراضيه حفاظًا على مصالحه الإستراتيجية مع حليفه الروسي.

فكان الحل هو الإطاحة بالنظام السوري، وإزالة هذه العقبة الكئود من الطريق. وهذا يفسر لنا سر معاداة قطر وأمريكا وتركيا للنظام السوري وسر دعم روسيا لنظام بشار الأسد، وتحولت الأراضي السورية إلى حرب بالوكالة، تديرها القوى الدولية لتحقيق مصالحها، فروسيا تساند بشار حفاظًا على مصالحها الاقتصادية، وهو نفس ما تفعله تركيا وأمريكا وقطر، كل منها يحاول أن يوجه دفة الحرب في الاتجاه الذي يُعظّم مكاسبه ولو كان ذلك على حساب تدمير الشعب السوري وتهجيره.

وما زال الصراع بين أمريكا وروسيا في سوريا محتدمًا، ولن يتوقف هذا الصراع مادامت الأراضي السورية منطقة نفوذ إستراتيجي لكل من القوتين. وفي النهاية سيظل الغاز هو مؤجج الحرب وسيظل الشعب السوري هو الخاسر.

ليست هناك تعليقات