ads header

أحدث المقالات

بنك الفقراء: كيف تقتلع مصر جذور الفقر بـ 27 دولارا فقط؟

 

جائزة نوبل للسلام بـ 27 دولارا فقط.. هذه هي خلاصة تجربة ثرية بدأت في سبعينيات القرن الماضي ببضعة دولارات فقط حتى فاز صاحب التجربة بجائزة نوبل للسلام عام 2006، والحقيقة أن التجربة وصاحبها يستحقان ما هو أكثر من نوبل بكثير، نظرًا لما قاما به من جهود حثيثة في تغيير حياة الملايين عبر العالم بانتشالهم من مستنقع الفقر وتمكينهم من امتلاك مشروعاتهم الخاصة المدرة للدخل.

خلال هذا التقرير سنعرض آفاق هذه التجربة، لتوضيح أثرها في تغيير حياة الملايين من الناس، وللتأكيد على أهمية استنساخها في مصر، إذا ما أردنا تحقيق تقدمٍ ملموس في مجال محاربة الفقر.

نظرة عامة على أوضاع الفقر في مصر

تعد مصر واحدة من الدول التي ترتفع فيها معدلات الفقر، فهناك 11.8 مليون مواطن ينفقون أقل من 333 جنيها في الشهر، كما أن 27.8% من سكان مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الغذائية وغير الغذائية، وقد بلغت نسبة الفقر في ريف الوجه القبلي 57% في مقابل 19.7% في ريف الوجه البحري، وفقا لآخر بيانات صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

أما عن خط الفقر العالمي فقد حدده البنك الدولي في آخر تحديث له بـ 1.9 دولار للفرد الواحد في اليوم.

وإذا تم الربط بين هذا الخط وبين ارتفاع الأسعار في مصر في الفترة الأخيرة، بالإضافة إلى تحرير سعر الصرف، نجد أن الحكومة المصرية قد أدخلت حوالي 30 مليون مصري تحت خط الفقر، وأن نسبة الفقر في مصر من المتوقع أن تتعدى الـ 40% خلال العام الجاري.

إصلاح في ظل برامج حماية غير فعالة

بات الحديث عن الإصلاح الاقتصادي في مصر مقترنًا بالحديث عن الإجراءات التي من شأنها أن تخفف عبء هذا الإصلاح عن كاهل الفئات الأكثر فقرًا في المجتمع.

في هذا السياق تم تأسيس الصندوق الاجتماعي للتنمية عام 1991م كشبكة أمان اجتماعي واقتصادي تتعامل مع الآثار الجانبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، وتحاول تخفيف وطأة إجراءاته عن كاهل محدودي الدخل.

كما قامت وزارة التضامن الاجتماعي في الفترة الأخيرة بتدشين برنامج تكافل وكرامة لمحاولة دعم الأسر الفقيرة. إلا أن هذه البرامج أثارت علامات استفهام كثيرة حول مدى فاعليتها من الناحية العملية، ومدى قدرتها على الوصول إلى الفئات المستهدفة بالفعل، كما كثر الجدل حول كيفية توصيل الدعم لمستحقيه وهل يقدم عينًا أم نقدًا؟

مصر تراوح مكانها وبنجلاديش تمضي بخطى ثابتة في محاربة الفقر

في ظل عدم تحقيق إنجاز ملموس في مجال محاربة الفقر في مصر منذ مطلع الألفية، فقد بات البحث عن سياسات بديلة أمرًا في غاية الأهمية، فمصر تراوح مكانها فيما يتعلق بهدف الألفية الخاص بتخفيض معدلات الفقر إلى النصف بحلول عام 2015.

حيث أصبح معدل الفقر في مصر 27% عام 2015 بعد أن كان 30% عام 2000، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة بشكل ملحوظ خلال العام الجاري، كما أوضحنا أعلاه.

على صعيد آخر استطاعت دول أخرى تحقيق ذلك الهدف قبل حلول 2015، على سبيل المثال استطاعت بنجلاديش تقليص معدلات الفقر من 44.2% عام 1991 إلى 18.5% عام 2010، ثم إلى 13.8% عام 2015 بناء على بيانات البنك الدولي.

كيف استطاعت بنجلاديش تحقيق تلك النسب؟ فبنجلاديش كانت من أفقر دول العالم في السبعينيات بمعدلات فقر تصل إلى 90%.

يمكننا الإجابة على هذا السؤال من خلال استعراض جهود بنك جرامين في مكافحة الفقر في بنجلاديش.

ما هو بنك «جرامين»؟

بنك جرامين، أو بنك القرية، أو بنك الفقراء، هو بنك يعمل على تمكين الفقراء من خلال منحهم قروضا بالغة الصغر بدون طلب أي ضمان عيني، وذلك من أجمل مساعدتهم على البدء في مشروعاتهم الخاصة والمدرة للدخل.

بدأت القصة عام 1971، عندما كان محمد يونس يعمل كأستاذ للاقتصاد في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما انفصلت بنجلاديش عن باكستان وأصبحت دولة مستقلة قرر يونس العودة إلى بلاده للمساهمة في بنائها بعد الاستقلال. وبينما كان يعمل رئيسًا لقسم الاقتصاد في جامعة بنجلاديش بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية تفشت مجاعة في جميع أنحاء البلاد، راح ضحيتها مليون ونصف المليون إنسان.

الرحلة إلى نوبل تبدأ من القرية بـ 27 دولارا فقط

قرر يونس النزول إلى القرى المجاورة للجامعة ومحاولة تقصي أسباب حالة الفقر والجوع المستشرية في جميع أنحاء البلاد.

وبعد أبحاث عديدة أجراها بالاستعانة بطلابه في قسم الاقتصاد توصل إلى لب المشكلة، وهي عدم امتلاك النساء رأس مال كافيا يمكّنهم من مزاولة أعمالهم اليدوية لحسابهم الخاص.

وهو ما يضطرهم إلى الاستدانة من مقرضي النقود فى القرية بفائدة تصل في بعض الأحيان إلى 500%، وهو ما يحرم الفقراء من ثمرة جهودهم، فبعد عمل جاد ومتواصل طوال اليوم في صناعة الكراسي من نبات البامبو، وبعد بيع الإنتاج وسداد القرض وفائدته للمقرض لا يتبقى سوى بضع بنسات بالكاد تكفي الاحتياج اليومي من الطعام.

هنا قدم يونس أول قرض له في حياته، وهو مبلغ بسيط يقدر بحوالي 27 دولارا يمثل كل ما يحتاجه 42 فقيرًا للبدء في العمل لحسابهم الخاص بعيدا عن المرابين بالقرية، بعد ذلك حاول يونس إقناع البنوك بضرورة إقراض الفقراء لإنقاذهم من قبضة هؤلاء المرابين، فقوبل طلبه بسخرية شديدة من كبار المصرفيين في بنجلاديش، زاعمين أن الفقراء غير جديرين بالإقراض، وغير أهل للائتمان.

وبعد محاولات وجهود حثيثة استمرت منذ عام 1971 حتى عام 1983 تم إنشاء بنك جرامين بهدف تقديم قروض صغيرة لتمويل مشروعات منزلية تقوم عليها غالبا نساء، منطلقا في ذلك من مبدأ أساسي، وهو أن الائتمان حق من حقوق الإنسان، كالمأكل والمسكن والملبس. وأن الائتمان إذا ما أحسن توجيهه في القنوات الصحيحة قادر على كسر دائرة الفقر المفرغة.

جرامين يبهر الجميع

حقق البنك نجاحا منقطع النظير منذ تأسيسه، حتى أن عدد فروع البنك وصل إلى 2600 فرع، جميعها في القرى، ووصل عدد المقترضين إلى 8.5 مليون شخص، 97% منهم من النساء. كما أن معدل سداد القروض بالبنك وصل إلى 99%.

كما ساعد البنك حوالي 20 مليون شخص على تحرير أنفسهم من براثن الفقر خلال عقدين، فقد تخطى 65% من المستدينين الذين تعاملوا مع المصرف لمدة خمس سنوات أو أكثر خط الفقر.

كما زاد عدد العاملات إلى الضعف، ومن ثم انخفض عدد المواليد من 6.2 للسيدة الواحدة عام 1991 إلى 2.2 فقط اليوم، وبفضل قروض جرامين للنساء العاملات في الغزل والنسيج تبوأت بنجلاديش المركز الثاني عالميا بعد الصين في صناعة الملابس الجاهزة.

من مجرد بنك إلى مؤسسة تعمل في مجالات الصحة والتعليم والتصنيع

لم يتوقف يونس عند حد مساعدة الفقراء على البدء في مشروعاتهم الخاصة فسحب، وإنما أعلن حربا ضروسا على الفقر بمفهومه الشامل، ليس فقر الدخل وحسب، وإنما فقر التعليم والصحة أيضا.

فقد ساهم جرامين في النهوض بالتعليم في بنجلاديش من خلال تأكيده على ضرورة التحاق أبناء جميع الأعضاء بالمدرسة، على أن يتعهد البنك بتقديم قروض تعليم للطلاب، ويلتزم الطالب بسداد تلك القروض كنسبة شهرية من دخله الوظيفي بعد التخرج.

أما في مجال الصحة فقد دخل يونس في شراكة مع شركة دانون العالمية لإنشاء شركة جرامين دانون، بهدف صناعة زبادي للأطفال يحتوي على جميع العناصر الغذائية التي يعانون من نقص حاد فيها، على أن يتم بيع المنتج بسعر التكلفة فقط ليكون في متناول الجميع.

كما عمل يونس على تحسين جودة مياه الشرب، فعندما أثبتت الدراسات أن 50% من المياه السطحية في بنجلاديش مسممة، دخل جرامين في شراكة مع شركة فيوليا الفرنسية من أجل تحلية المياه السطحية في بنجلاديش وتوزيعها على المواطنين.

كما تم تدشين برنامج للتأمين الصحي، يحصل من خلاله الأعضاء على الرعاية الصحية الشاملة في مقابل 3 دولارات في العام. كل هذه الجهود وأكثر في قطاع الصحة أدت إلى انخفاض عدد الأطفال الذين يموتون قبل الخامسة بنسبة الثلثين في الفترة من 1990 إلى 2013.

أما في مجالات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات فقد تم تأسيس شركة جرامين فون، لإدخال خدمة الهاتف المحمول إلى بنجلاديش، تقدر أعداد المشتركين في الشبكة بحوالي 85 مليون شخص. كما تم تأسيس شركة جرامين للكهرباء، وهي شركة تعمل على إمداد المنازل بالكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية.

شركات العمل الاجتماعي: أذرع جرامين الممدودة للفقراء أينما كانوا

اتخذ يونس من المشروعات وسيلة لتحسين حياة شعبه، هذه المشروعات لم تكن من النوع التجاري التقليدي، وإنما استحدث يونس نوعا جديدا من الشركات أطلق عليه شركات العمل الاجتماعي، وهي شركات غير هادفة للربح تعمل لحل مشكلة اجتماعية ما.

في هذا الصدد قام يونس بإنشاء حوالي 65 شركة تعمل في الأساس من أجل إيجاد حلول للمشاكل التى يعاني منها المجتمع، وفي عام 1977 تم تأسيس مؤسسة جرامين القابضة، وكونت شبكة عالمية شملت 52 شريكاً في 22 دولة، وقدمت خدماتها لنحو 11 مليوناً في آسيا وأفريقيا والأمريكيتين والشرق الأوسط.

وقد حصل محمد يونس على جائزة نوبل عام 2006 مناصفة بينه وبين بنك جرامين تكريما له على جهوده في مجال محاربة الفقر وتمكين الفقراء.

إذن يمكننا حصر تجربة محمد يونس في محورين أساسين، أولا: أهمية القروض الصغيرة في انتشال الفقراء وحل الفقر، وذلك من خلال تمكينهم من البدء في مشروعاتهم الخاصة المدرة للدخل.

ثانيا: ضرورة تبني فكرة تأسيس الشركات الهادفة لحل مشاكل المجتمع وليس الربح كوسيلة غير تقليدية وفعالة لمحاربة الفقر بمفهومه الشامل.

شباك البيروقراطية يحول دون إنشاء فرع لجرامين في مصر

ومن الجدير بالذكر أن مصر لديها فرصة حقيقية للاستفادة من تجربة جرامين ومحاولة استنساخها بما يتناسب مع التكوين الثقافي والمجتمعي في مصر، خاصة أننا نمتلك شبكة عريضة من فروع مكاتب البريد التي يمكن التعويل عليها في الوصول للفقراء أينما كانوا.

بالإضافة إلى وجود بنك ناصر الاجتماعي والصندوق الاجتماعي للتنمية، ناهيك عن قيام الرئيس السيسي برصد 200 مليار جنيه على 4 سنوات لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، كل هذه الإمكانيات وتلك الموارد تجعل مصر مكانا أمثل لإنشاء مثل هذا النوع من بنوك الفقراء.

ولكن شباك البيروقراطية المصرية يقف حائلا دون ذلك، على حد قول محمد يونس، الذي أكد أنه كان يتمنى أن تكون مصر أول دولة تحتضن فرعا لبنك جرامين في الشرق الأوسط، وقد عرض ذلك بالفعل منذ 20 عاما على الرئيس مبارك، ولكن الحكومة المصرية عجزت عن السير على خطى يونس.

ليست هناك تعليقات