التاريخ الدموي: سياسات صندوق النقد الدولي لخدمة الرأسمالية
بينما يعاني الشعب المصري من تبعات السياسات الاقتصادية المتخبطة التي تفاجئنا بها الحكومة ليل نهار، والتي توجت بالاتفاق مع صندوق النقد الذي بمقتضاه تم تحرير سعر الصرف، ورفع دعم الطاقة، مؤديا ذلك إلى موجة تضخمية هي الأكثر ارتفاعا منذ الثمانينيات، بينما الحال كذلك في مصر، وبيمنا يعاني الشعب المصري يبدو أن الشعب التونسي على شفا المعاناة.
فقد أبرمت الحكومة التونسية اتفاقا مع صندوق النقد الدولي، بمقتضى ذلك الاتفاق تستعد الحكومة لتحرير سعر صرف الدينار التونسي خلال الأيام المقبلة، يبدو أن تونس تسير على خطى مصر، ويبدو أن مصر تسير على خطى اليونان، والأرجنتين، وغانا، وزامبيا، وغيرها الكثير من الدول التي يترنح اقتصادها تحت وطأة تطبيق برامج الصندوق للإصلاح الاقتصادي.
تتوالى التجارب والنتيجة واحدة، مزيد من التخلف والتبعية الاقتصادية، هذه النتيجة ليست بدعة ابتدعها صندوق النقد، وإنما هي نتاج للموقع اللامتكافئ الذي تحتله بلاد العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.
هذا الموقع قد تشكل على مر التاريخ من خلال عمليات ممنهجة ومنظمة لفرض التبعية على هذه البلاد التي خلفت رغما عنها لضمان تبعيتها الكاملة للاقتصاد الرأسمالي العالمي، ومن ثم تحويل هياكلها الإنتاجية إلى هياكل مصدرة للمواد الخام ومستوردة للسلع المصنعة. فمن الثابت تاريخيا أن النظام الاقتصادي العالمي لم يكن يوما نظاما محايدا، فمنذ نشأته وهو يعكس مصالح الطرف الأقوى. ومن ثم كان سرد تاريخ التخلف الذي فُرض على بلاد العالم الثالث من الأمور التي لا يسع القارئ جهلها حتى يتسنى له قراءة الواقع واستشراف المستقبل على نحو أوضح.
أوروبا التي ترعرعت على سفك الدماء
العالم الإسلامي يسلب أوروبا ذهبها
بينما كانت أوروبا تغوص في بحور الظلام في العصور الوسطى، كان العالم الإسلامي في أوج عظمته وقمة تفوقه التجاري والعلمي والصناعي، تفنن المسلمون في صناعة السفن، وركبوا أعالى البحار ليسيطروا على الطرق التجارية ويكونوا الوسيط التجاري بين بلاد الشرق الأقصى كالهند وبين العالم الأوروبي متمثلا بالأساس في بعض المدن الإيطالية مثل جنوة والبندقية، وهو ما أدر على التجار المسلمين أرباحا طائلة كانت تصل في بعض الأحيان إلى 300%.(1)
خلال تلك الفترة مال الميزان التجاري لصالح العالم الإسلامي، حيث لم تكن أوروبا تنتج من السلع ما تقايض به سلع التجار المسلمين الفاخرة، ومن ثم كان يتوجب عليها أن تدفع مقابل وارداتها ذهبا، وهو ما أدى إلى تسرب المعدن النفيس خارج أوروبا. الأمر الذي أشعل على الفور حركة الكشوف الجغرافية من قبل إسبانيا والبرتغال بهدف رئيسي، وهو محاولة البحث عن الذهب في العالم الجديد لتعويض ما تسرب من ذهب للعالم الإسلامي.
وبدأت مرحلة جديدة في التاريخ الأوروبي، مرحلة شعارها النهب، ووقودها الدماء التي سالت أنهارا لإشباع جشع الرجل الأبيض ورغبته في امتلاك الذهب الذي اعتقد أنه شيء ساحر، ومن يمتلكه فقد امتلك كل شيء، بل يستطيع المرء بالذهب إدخال الأرواح الجنة على حد قول «كريستوفر كولومبوس».
الكشوف الجغرافية: بداية جديدة للنهب المنظم
انطلقت السفن البرتغالية محملة بجحافل التجار والقراصنة لكي تفك الحصار التجاري المفروض من قبل الدولة العثمانية على التجارة مع الهند والشرق الأقصى، وكذلك من أجل البحث عن الذهب والسيطرة على منابع إنتاجه. وبالفعل تمكن الملاح البرتغالي «فاسكو دي جاما» من الدوران حول القارة الأفريقية والوصول إلى شبه القارة الهندية في عام 1498.
تعرضت البلاد التي سيطر عليها البرتغاليون إلى عمليات سرقة ونهب لا رحمة فيها ولا شفقة، كانت الشعوب الأفريقية شعوبا مسالمة، لم تنغمس في الحروب ولم تعتد استخدام الأسلحة الحديثة التي جاء بها الرجل الأبيض، وهو ما مكن البرتغاليين من استغلال مواردهم ونهب ثرواتهم، فاستولوا على مناجم الذهب في السودان، وحولوا كميات هائلة من المحاصيل الاستوائية مرتفعة القيمة كالعاج والريش والمحاصيل الزيتية للقارة الأوروبية، أضف إلى ذلك التوابل التي جلبوها من الهند وقاموا ببيعها في السوق الأوروبية محققين أرباحا طائلة. في هذا الصدد يكفيك أن تعلم أن فاسكو دي جاما قد عاد إلى لشبونة عام 1499 محملا ببضائع تبلغ قيمتها ستين ضعف تكلفة الرحلة.(2)
هذه المغانم سرعان ما دفعت الإسبان إلى دخول ساحة التنافس الاستعماري، فوصل كريستوفر كولومبس البحار الإسباني إلى شواطئ أمريكا (العالم الجديد) عام 1494، كان الهنود الحمر هم السكان الأصليون لهذه المناطق، شعوب مسالمة وحضارة عريقة مستقرة، معابد شامخة يزينها الذهب، وأراضي خصبة ملؤها القطن والتبغ وقصب السكر.
وجد كولومبس ورجاله في الهنود الحمر مسالمة وسماحة وطيبة لا عهد لهم بها في أوروبا، يصور كولومبس مدى سذاجة الهنود الحمر وطيبتهم في يومياته بقوله: «من فرط مودتهم تخال أنهم سيسلمونك قلوبهم، حتى أن كل ما لديهم يعطونه في مقابل أي شيء تافه تقدمه لهم، بحيث إنهم يأخذون في مقابل ما يعطون كسورا من الأواني وكسرا من الأقداح الزجاجية».(3)
أوروبا تتورط في أقذر تجارة عرفها التاريخ: تجارة البشر.
في ضوء هذه الوداعة التي اتسم بها الهنود الحمر عاث الإسبان في الأرض فسادا، نهبوا المعابد، دمروا الحضارة (حضارة الآزتيك والإنكا والمايا)، وأجبروا السكان المحليين على العمل بالسخرة في مناجم الذهب والفضة في ظروف قاسية دفعت الكثير منهم إلى الانتحار خلاصا من العذاب. خلال تلك الفترة تم إبادة ملايين الهنود الحمر نتيجة قسوة ظروف العمل في المناجم، تشير التقديرات إلى أن واحدا فقط كان يخرج حيا من بين كل 8 أشخاص عملوا في المناجم.
بدأت الحكومات الأوروبية ترسل المساجين والمجرمين إلى أمريكا لتعويض ندرة الأيدي العاملة الناتجة عن إبادة الهنود، إلا أن ذلك لم يفِ بالحاجة، ولذلك تفتحت قريحة أصحاب رؤوس الأموال عن فكرة صيد البشر من أفريقيا وشحنهم عبر المحيط للعمل كعبيد في المزارع والمناجم، ليبدأ فصل جديد من تاريخ الرأسمالية التجارية التي ترعرعت على دماء الهنود، واتخذت من الاتجار في الأفارقة وسيلة لتعزيز تراكم رأس المال في العواصم الرأسمالية. يكفيك أن تعلم أنه في غضون ثلاثة قرون قدمت أفريقيا 20 مليونا من البشر كعبيد لأمريكا.(4)
خلال تلك الفترة تم شحن كميات كبيرة من الذهب والفضة إلى أوروبا، تقدر هذه الكميات بحوالي 181 طنا من الذهب، و1700 طن من الفضة(5)، هذا الذهب المنهوب ساعد على التراكم المبدئي لرأس المال الذي سيصبح أساسا فيما بعد لقيام الثورة الصناعية، تلك الثورة التي بدأت في إنجلترا في القرن الثامن عشر، وما صاحبها من بداية الاستعمار الأوروبي المباشر والمنظم لدول العالم الثالث، لتطويع هذه الدول لخدمة أغراض الرأسمالية الصناعية.
الثورة الصناعية: هجمة استعمارية جديدة
مع اختراع الآلة البخارية وقيام الثورة الصناعية، دخل العديد من الدول الأوروبية الأخرى كهولندا وفرنسا وإنجلترا ساحة التنافس الاستعماري، إلا أن أهداف هذه الدول قد تغيرت استجابة لطبيعة المرحلة التي يمر بها النظام الرأسمالي خلال تلك الفترة، فلم يعد هدفها الأساسي هو الحصول على الذهب، ولكن فتح أسواق هذه البلاد أمام المنتجات الصناعية من جهة، واستنزاف مواردها الخام من أجل تمويل الصناعة الأوروبية من جهة أخرى.
وبعد مرور أكثر من مائة عام على قيام الثورة الصناعية استمر خلالها الاستعمار المباشر لدول العالم الثالث قامت الحرب العالمية الأولى 1914 وانهارت قاعدة الذهب فيما بين الحربين، مما أدى إلى زيادة التناحر بين الدول الصناعية الكبرى على تقسيم دول العالم الثالث الذي خُلّف رغما عنه ليكون ملعبا لخدمة أهداف الرأسمالية الصناعية الصاعدة منذ منتصف القرن الثامن عشر.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام حركات التحرر الوطني في معظم بلدان العالم الثالث، اتخذ العديد من هذه البلدان توجهات قومية واشتراكية لتحقيق متطلبات التنمية. هذه الفترة من 1945 إلى 1971 هي فترة ازدهار الاقتصاد العالمي، الصناعي منه والنامي على السواء.(6)
فقد عُرف ربع القرن التالي للحرب العالمية الثانية بربع القرن المجيد. وهي الفترة التي انشغلت فيها أوروبا بنفسها وركزت على إعادة ترميم اقتصاداتها المتهدمة في أعقاب الحرب، وهي نفس الفترة التي بدأت فيها الدول النامية مشروعاتها القومية للتنمية الاقتصادية والسياسية. وما ساعد الدول النامية خلال هذه الفترة على تحقيق معدلات معقولة من النمو والتنمية هو انشغال العالم الرأسمالي عنها، فأوروبا تحاول أن تقف على قدميها بعد سني الحرب المدمرة، وأمريكا وجدت ضالتها في السوق الأوروبي الناشئ الذي استوعب فائضها الاقتصادي خلال فترة إعادة التعمير.
أول مشروع أممي لإعادة احتواء دول العالم الثالث
مع بداية عقد السبعينيات بدأت تناقضات الاقتصاد الرأسمالي العالمي ذي الهيمنة الأمريكية في الظهور، وبرزت من جديد معضلة الرأسمالية الهيكلية، وهي القدرة على تصريف فائضها الاقتصادي وتحقيق التوازن بين قدرة النظام على إنتاج الناتج وامتصاصه في الوقت ذاته، وذلك تجنبا لكساد اقتصادي جديد على غرار الكساد الكبير عام 1929. من هنا كان لابد من تكييف العالم الثالث، وإعادة دمجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ولكن بطرق جديدة تناسب روح العصر وتأخذ في عين الاعتبار انتهاء عصر الاستعمار العسكري المباشر وظهور الدول القومية المستقلة ذات السيادة الوطنية.
إذن لابد من استحداث آليات وطرق جديدة يمكن من خلالها تطويع بلدان العالم الثالث لخدمة تراكم رأس المال في العواصم الصناعية.
وكانت أزمة المديونية العالمية في خريف عام 1982 وتوقف المكسيك وبيرو وتشيلي وغيرها عن سداد ديونها هي الخطوة الأولى نحو تصميم ما يمكن تسميته أول مشروع أممي عالمي لإعادة احتواء دول العالم الثالث مرة أخرى وضمان تبعيتها للمنظومة الرأسمالية العالمية، فقد تم تصميم برامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي لمساعدة هذه البلاد على سداد ديونها والحيلولة دون إفلاس الكثير من البنوك الأوروبية المقرضة.(7)
عند هذه النقطة تحديدا يمكننا الإشارة إلى أن الباعث وراء استحداث مثل هذه السياسات لم يكن لخدمة اقتصادات بلدان العالم الثالث، وإنما لخدمة الدول الرأسمالية المقرضة. فمن ناحية صُممت هذه البرامج لمساعدة هذه الدول على استعادة توازنها الاقتصادي الداخلي والخارجي حتى تكون قادرة على إعادة سداد ديونها والحيلولة دون إفلاس البنوك المقرضة في أمريكا وأوروبا.
ومن ناحية أخرى ساعدت هذه السياسات النيوليبرالية على فتح بلدان العالم الثالث وإعادة دمجها في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فهذه السياسات كان الغرض المباشر منها غرضا مزدوجا ألا وهو تعزيز قدرة الدول النامية على دفع ديونها المستحقة للدول المتقدمة وفتح أسواق البلاد النامية أمام الدول المتقدمة.
الخلاصة أن هذه السياسات الإصلاحية التي يتبناها صندوق النقد الدولي، والتي تعرف ببرامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي وضعت في الأساس لخدمة الدول الرأسمالية الكبرى، ومن ثم تأتي التنمية كهدف غير مباشر لهذه السياسات، ولذا فليس ثمة غرابة من أن تطبيق هذه السياسات لم يحقق التنمية المنشودة في الدول النامية ولم يؤد إلا إلى مزيد من الركود والتخلف.
ليست هناك تعليقات