الخبرة التاريخية: لماذا يجب على مصر رفض سياسات صندوق النقد؟
شهد الاقتصاد المصري تحديات جوهرية في إطار الأخذ بسياسات الإصلاح الاقتصادي التي تنادي بها المؤسسات الاقتصادية الدولية منذ بداية السبعينيات، فقد مرت التجربة المصرية مع سياسات الإصلاح الاقتصادي بمرحلتين؛ المرحلة الأولى، منذ عام 1974 مع بدء تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي.
أما المرحلة الثانية، من الإصلاح الاقتصادي عرفت باسم برامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي عام 1991، وقد تمثلت الأهداف الرئيسية لبرامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي في الإصلاح المالي والنقدي، تحرير التجارة الخارجية، تحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي، بالإضافة إلى إصلاح القطاع العام وبدء برنامج الخصخصة.
على صعيد آخر قامت الحكومة المصرية في أغسطس 2016 بتوقيع اتفاق مبادئ مع صندوق النقد الدولي بالقاهرة، هذا الاتفاق تضمن العمل على نفس المحاور التي تم العمل عليها في اتفاق عام 1991.
ومن الأهمية بمكان استعراض تاريخ تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي، والوقوف على تجارب الدول مع هذه السياسات وهل أدت بالفعل إلى علاج الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها اقتصادات هذه البلدان أم أنها زادت الطين بلة؟
الاحتلال الاقتصادي للدول النامية
يري الاقتصادي الأمريكي جون بركنز والملقب بقرصان الاقتصاد أن سياسات المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ما هي إلا ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول النامية، حيث يتم التحايل بشتى الطرق لإيقاع هذه الدول في فخ المديونية الدولية من خلال إقناعها بضرورة القيام بالاستثمارات التي من شأنها أن تضع هذه البلاد على طريق التنمية الاقتصادية المستدامة.
ويتم تمويل هذه الاستثمارات في البنية التحتية والطاقة والإسكان وغيرها من قبل البنك الدولي، وتقوم بهذه الاستثمارات الشركات الأمريكية العملاقة مثل شركة «مين Main» للإنشاءات. ومع الوقت تتراكم الديون وأقساطها على دول العالم الثالث ومن ثم تقع في فخ المديونية وهذا هو المطلوب بالفعل.
حيث تتمثل المرحلة التالية في استغلال هذه الديون للضغط على هذه الدول لضمان تبعيتها السياسية، ومن ثم ضمان استغلال مواردها الطبيعية وثرواتها الاقتصادية، وعليه فلم تؤدِ هذه السياسات إلا إلى مزيد من الفقر ونهب موارد العالم الثالث الاقتصادية وتدمير البيئة وتشريد ملايين المواطنين.
أزمة الديون المكسيكية واستحداث سياسات جديدة
للوقوف على مدى صحة ادعاءات جون بركنز لابد من الإشارة إلى بعض الأزمات التي صاحبت تطبيق هذه السياسات. وأولها بالتأكيد أزمة الديون المكسيكية، تلك الأزمة التي أدت إلى استحداث برامج الإصلاح الاقتصادي و التكيف الهيكلي، ففي الثمانينات من القرن الماضي انفجرت أزمة المديونية في معظم الدول النامية وأعلنت المكسيك عام 1982 توقفها عن دفع الديون وتبعها في ذلك عدد من الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
الأمر الذي استدعى تدخل صندوق النقد والبنك الدوليين من أجل العمل على عدم توقف هذه الدول عن دفع ديونها لذلك قاما بتقديم ما يعرف ببرامج التثبيت الاقتصادي والتكييف الهيكلي، لمساعدة هذه الدول على سداد ديونها ومن ثم الحيلولة دون إفلاس البنوك الأوروبية والأمريكية المقرضة.
تدخل الصندوق والبنك في المكسيك وبدأ تطبيق برامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي وخضعت المكسيك لشروط الصندوق والبنك، بل طبقتها كما يجب أن يكون لدرجة أن الصندوق والبنك أشادوا بها و أطلقوا عليها اسم «الطالب النموذج».
قام الصندوق بفتح باب المكسيك على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية وقام بتخفيض الأجور من أجل تشجيع الاستثمارات، وتخفيض قيمة العملة المحلية (البيزو)، وتحرير الخدمات العامة، وتخفيض الأجور، و التوسع في عمليات الخصخصة. ولكن ماذا كانت النتيجة….؟
كانت النتيجة زيادة ديون المكسيك من 57 مليار دولار عام 1982 إلى 99 مليار دولار عام 1997، زيادة عدم المساواة والذي أقره البنك الدولي حينما صرح بأن 15 عاما من سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين لم تستطع القضاء على عدم المساواة وانتشار الفقر في المكسيك، حيث سقطت ملايين الأسر المكسيكية تحت خط الفقر.
وزادت المعاناة نتيجة التوسع في عمليات الخصخصة التي آلت بتحويل العديد من القطاعات الهامة والحيوية مثل السكك الحديدية والاتصالات والنقل العام والخدمات المصرفية والمالية إلى القطاع الخاص الذي تنافس في رفع الأسعار والإضرار بالمواطن البسيط، كذلك انخفض الدعم والتحويلات الحكومية بحوالي 50% و ذلك طبقا للدراسات التي أجراها البنك الدولي، وارتفعت معدلات البطالة بمعدلات كبيرة، وانخفضت الأجور الحقيقية.
رأسمالية الكوارث في تشيلي
النموذج الثاني لفشل سياسات صندوق النقد الدولي هو تشيلي. في بداية السبعينات وتحديدا عام 1970 فاز سلفادور أليندي في الانتخابات التشيلية إثر وعوده التنموية ذات الخلفية الاشتراكية. حيث عاهد شعبه على زيادة العمالة وتأميم كبرى الشركات التشيلية، بالإضافة إلى اضطلاع الدولة بالدور الأكبر في عملية التنمية.
لكن ذلك لم ينل إعجاب البيت الأبيض في أمريكا خاصة مع وصول نيكسون لسدة الحكم وعمله على دعم صبيان مدرسة شيكاغو لإنزال الألم بالاقتصاد التشيلي، وذلك من خلال تطبيق الفكر النيوليبرالي الذي أسسه مليتون فريدمان والذي يتبنى العلاج بالصدمة.
مذهب العلاج بالصدمة
يتبنى هذا المذهب، الصدمة كوسيلة فعالة لتمرير السياسات الاقتصادية التي ما كان ليقبل بها الشعب في الظروف الطبيعية، هذه الصدمة قد تكون انقلابًا عسكريًا أو كارثة طبيعية أو أزمة مفتعلة (كما تم اختلاق أزمة نقص لبن الأطفال وأزمة نقص السكر في مصر لرفع سعريهما).
فالشعب إثر الصدمة يكون في حالة غيبوبة تامة، وعلى الحكومات أن تستغل هذه الحالة لتمرير سياساتها الاقتصادية من رفع للأسعار وتخفيض للدعم وخصخصة للقطاع العام… وغيرها من السياسات النيوليبرالية.
فعلى سبيل المثال استغل صندوق النقد الدولي الأزمة المالية الآسيوية -1997- لتمرير بعض برامج الخصخصة في منطق جنوب شرقي آسيا وبالفعل تم بيع بعض الشركات الحكومية إلى بنوك وشركات متعددة الجنسيات، كما استغلت الحكومة السيرلانكية إعصار تسونامي لطرد الصيادين المحليين من قراهم الساحلية وبيعها لشركات الاستثمار السياحي. ناهيك عن اتخاذ الحكومة الأمريكية أحداث 11 سبتمبر 2001 ذريعة لاحتلال العراق.
الصدمة العسكرية وتمرير السياسات التقشفية
فى عام 1973 قاد بينوشيه انقلابًا عسكريًا على الرئيس المنتخب سلفادور اليندي، هذا الانقلاب أسفر عن آلاف القتلى والمعتقلين.
ازداد الوضع الاقتصادي سوءًا عقب الانقلاب، فقد وصلت نسبة التضخم في عام واحد فقط إلى 375% وهو ما دفع بينوشيه إلى الاستعانة بفريدمان، فأشار فريدمان بضرورة تبني برنامج اقتصادي مكثف يتضمن خفض الضرائب، وتحرير التجارة، وخصخصة الخدمات، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وتحرير الاقتصاد من الرقابة.
بعد عام واحد فقط أثبتت سياسات فريدمان في تشيلي فشلاً ذريعًا، فقد زادت سياساته الأغنياء غنى وألقت بملايين الأسر تحت خط الفقر حتى إن الأسر متوسطة الدخل في تلك الفترة كانت تنفق 74% من دخلها على الخبز فقط، ناهيك عن ارتفاع الأسعار، وإلغاء الدعم ووقف توزيع الوجبات المدرسية.
التجربة المصرية (1991) مع صندوق النقد
تولى الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك مقاليد الحكم عام 1981م وقد كان الاقتصاد المصري يعاني من تبعات السياسات التي انتهجتها الأنظمة السابقة حيث زادت المديونية الخارجية بشكل كبير في عهد السادات، بالإضافة إلى أن السنوات الأربع بعد مقتل السادات قد شهدت تراجعًا كبيرًا في أسعار النفط في ظل خصام عربي مصري إثر توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل.
في الوقت نفسه زادت المديونية الخارجية بشكل كبير مما اضطر الحكومة المصرية إلى عقد اتفاق مع كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإيجاد حل لتلك الأزمة.
وعلى الرغم من النتائج الإيجابية الوقتية لهذه البرامج إلا أن نسبة الدين العام أخذت في الارتفاع من 4.59 مليار جنيه عام 1974 إلى 370.6 مليار جنيه في عام 2003 بما يعادل 90.4% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن هنا أصبح سداد أقساط الديون وفوائدها ثاني أكبر بند من بنود الإنفاق الجاري في الموازنة العامة بدءاً من عام 2003، مما يمثل خصمًا من موازنات التعليم والصحة والخدمات الأساسية والإنفاق على الضمان الاجتماعي ومرافق البنية التحتية.
وتشير البيانات الاقتصادية الخاصة بالفترة من 1991-2004 إلى تناقض أساسي في جوهر السياسات التي أخذت مصر بتنفيذها منذ أوائل التسعينيات. ذلك التناقض الذي انعكس في تحسن الأداء الاقتصادي الكلي في الوقت الذي تدهورت فيه الأوضاع الاجتماعية متمثلة في زيادة نسب الفقر في مصر ناهيك عن انعدام العدالة الاجتماعية.
المواطن في وجه المدفع
هذه التجارب أوردناها على سبيل المثال لا الحصر، فهناك الكثير من الدول التي لم تنجُ من قبضة المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل الأرجنيتن وفنزويلا والصومال وغيرها من الدول، إلا أنه يمكننا القول إن القاسم المشترك بين هذه التجارب هو وقوع عبء تنفيذ هذه السياسات على المواطن البسيط فى المقام الأول، فهي سياسات تستهدف تخفيض دعم الطاقة والغذاء والسلع الأساسية، بالإضافة إلى زيادة الضرائب ورفع يد الدولة عن مسألة التوظيف وخصخصة المشروعات العامة، كل هذه السياسات تمس حياة الفقراء والمواطنين البسطاء بشكل مباشر.
وعن العلاقة بين معدلات الفقر وبين سياسات التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي يقول ميشيل تشوسودوفيسكي في كتابه عولمة الفقر:
ومن ثم توجب على الدول التي تأخذ على عاتقها تنفيذ مثل هذه السياسات إما خلق حالة من «الصدمة» لتمرير هذه السياسات كما أشرنا سابقا، أو الأخذ بمجموعة من السياسات القمعية التي من شأنها أن تردع أي محاولات للتنديد بسوء الأوضاع الاجتماعية الناتجة عن تطبيق مثل هذه البرامج.
ليست هناك تعليقات